نموذج حقيقي للوفاء والتضحية.. مصطفى «سينجل فازر»

نموذج حقيقي للوفاء والتضحية.. مصطفى «سينجل فازر»

كتب: مريم مدحت

اخر المواضيع

الأكثر قراءة

رئيس مجلة علاء الدين: نسعى لتقديم محتوى جذاب وممتع للقراء

رئيس مجلة علاء الدين: نسعى لتقديم محتوى جذاب وممتع للقراء كتب: روضة سعد – هاجر سامح في حوار شيّق أجراه فريق عمل مشروع أول خطوة مع الأستاذ حسين الزناتي، رئيس…

“كان بيتنا لا يخلو من السعادة المفرطة، وكان دائما مفعما بالحيوية والنشاط والأصوات التي تعطي الأمل في المستقبل، وما هو قادم، ولكن سرعان ما تحول كل هذا فانقلبت الأمور رأساً على عقب، وتحول الأمل إلى يأس، وأصبح البيت يملؤه الحزن والصمت بعد وفاة زوجتي وحبيبتي الأولى والأخيرة”.. كلمات تحدث بها مصطفى صاحب الأربعين عاما بوجه شاحب وعيون منتفخة مليئة بالدموع بعد وفاة زوجته التي تركت له 3 أبناء في مراحل عمرية مختلفة.

أكمل مصطفى حديثه، ووجهه مليء بالحزن، فقد ظهر ذلك عليه واضحاً كوضوح الشمس، لحيته كانت كبيرة، ولا يهتم بمظهره كثيراً، فكان غير مهندم بالمرة، ولم تكن ملابسه منسقة،  وقال: “لم تكن زوجتي فقط، بل كانت لي كل شيء، كانت حبيبتي وأمي، وصاحبتي وابنتي الأولى، فقد كانت بمثابة عائلتي بأكملها، وقد أشعرتني بأنها وطني واختفت في وجودها غربتي التي شعرت بها لسنين طويلة فكان رحيلها بالنسبة لي كالصاعقة التي هزت كياني ووجداني”.

بدأ مصطفى يتنفس بسرعة شديدة كانت ملحوظة، وشرد قليلا وكأنه ينظر إلى شخص آخر يجلس معنا أو يتمنى وجوده بيننا الآن، بدت لي هذه الأعراض، وكأنها أعراض لنوبة هلع تعرض لها أثناء حديثه وتذكره لذكرياته مع زوجته الراحلة.

قطعت صمته بسؤالي عن عمله وعن أبنائه وأعمارهم بعد صمت طويل بيننا نحن الإثنين، وذلك احتراما لذكرياته ومشاعره التي كانت بينه وبين زوجته، وكأن صمته هذا بمثابه حداد عليها وعلى نفسه التي أصبحت خاوية بعد ذهابها.

كان مصطفى يجلس على كرسي مذهب، وكان منحني القامة، وعندما سألته اعتدل في جلسته وبدأت ترتسم على وجهه ابتسامة خفيفة وكأن أطفاله هم كل ما يجعله يتمسك بالحياة فقط، وبدأ يتحدث  قائلا: “لقد رزقني الله بثلاثة أطفال من زوجتي: بنتان وولد فطفلتي الكبرى عمرها 12 عاماً، وعندي توأم ولد وبنت في عمر 9 سنوات تركتهما لي زوجتي بعد ولادتهما مباشرة، وأنا أعمل موظفا بوزارة الثقافة وكانت زوجتي ربة منزل”.

واستطرد بعد ذلك كلامه قائلا: “تعرفت على زوجتي من العمل، فكانت هي أمامي طوال الوقت، وكنت أراقبها من شدة جمالها وإنسانيتها وذلك الذي حببني بها، وقد بدأنا حياتنا خطوة بخطوة، وكانت حياتنا صعبة في بادئ الأمر، وذلك لأن والدي ووالدتي متوفيان، وكانت الحياة صعبة بسبب الالتزامات التي فرضت علينا في بداية زواجنا، ولكن كانت زوجتي تساعدني وتساندني وتقف بجانبي تحملت معي وعانت كثيرا، وكانت من أجمل الأشياء التي منحني الله إياها، وكانت تخصص جزءاً من راتبها للبيت ومستلزماته مع أن هذا لم يكن واجبا عليها، وكانت تقول لي لا تخشي شيئا ربنا كبير ورحمته واسعة ومش هينسانا، كانت تدعمني بكل الطرق حتى فتح الله علينا أرزاقا واسعة من حيث لا نحتسب، وذلك مع ولادة طفلتنا الأولى سلمى، تركت حينها زوجتي العمل للتفرغ لتربية ابنتنا الصغيرة، وكبرت سلمى يوما بعد يوم، وكانت زوجتي تعينني على أمور الدين والدنيا بالرغم من انشغالها الدائم بالبيت ومشاكلي، ووسط انشغالها علمنا  بحملها من جديد، ولكن هذه المرة في طفلين توأم “ساجد” و “تمارا”  وكانت الفرحة لا تسعنا فكأننا كنا سنملك الدنيا وما عليها كانت هذه الفترة من أسعد أيام حياتنا”.

ابتسم ابتسامة قهر وحزن وضع يده على يديه الأخرى، وذلك دلالة على طمأنة النفس، وكان يتمالك نفسه وأخذ نفسا عميقا وكنت أشاهد جميع انفعالاته وأراقبها في هدوء تام فلم أرد إزعاجه بكثرة الأسئلة لأنه بالفعل فتح قلبه لي وتكلم عن الكثير والكثير من أمور حياته، وأكمل قائلا: “لم نكن نعلم أن هذا كله بداية لحزن وألم كبير وكثير، وهل للحياة أن تعطيك كل ما تريد فبالطبع منذ أن تأخد شيء من الطبيعي أن تدفع أضعاف الأضعاف لهذا الشيء، وحين تظن بأن كل شيء لك ومعك تأتي الحياة بصفعة كبيرة لتقول لك لا أنت لا تملك أي شيء، فقد جئت إلى هذه الدنيا فقير وكذلك سيكون حالك طوال رحلة حياتك فامتلاكك لشيء يجب أن تقدم له مئات الخسائر حتى تستحقه فعندما تعطي لك الحياة لا تفرح لأنها بالتأكيد ستأخذ منك أمامه الكثير”.

أكمل مصطفى حديثه قائلا: “عند معرفتنا بحملها لم تكن الدنيا تسع فرحتنا، ثم جاءنا الخبرالصادم فبعد شك الدكتور فعدة أشياء أجرى لها الفحوصات الطبية التي بدورها أخبرتنا عن الشيء الذي سينال من عائلتنا الجميلة وجلسنا أمام الدكتور الذي اصفر وجهه وهو يقول لي بأن زوجتي مصابة بالمرض الخبيث -السرطان- الذي لم ينهش جسدها فقط وإنما انتصر عليها في النهاية، كما انتصر علينا جميعا، فكانت الأيام تمر علينا بحزن، ونحن نعلم النهاية المحتومة، وتمسكت زوجتي بطفليها بعد أن دب بهما الروح، وجاءت اللحظة الحاسمة وقت ولادة طفلينا فكانت تودعني وتنظر إليّ بنظرات لم أرها من قبل في عيونها وكأنها تريد الشبع من وجهي ووجه ابنتنا سلمى ذات الثلاث أعوام سلمي في هذا الوقت، وقالت لي أوصيك بأبنائي لا تتركهم مهما حدث ولا تتخلى عنهم، كن بجانبهم دائما فأنا سأرحل وأنت ستكمل مسيرتي، لقد كنت نعم الزوج والأب وستظل كذلك وبكت وطمئنتها إلى أن دخلت غرفة الولادة وودعتني أنا وابنتي سلمى وبكيت كثيرا، فلم أكن متفائلاً في ذلك اليوم، حيث تأخرت كثرا داخل الغرفة، وحانت اللحظة الحاسمة التي تحول بعدها كل شيء إلي لون باهت حيث قال لي الدكتور مبروك لقد رزقك الله بمولودين غاية في الجمال وصمت قليلا وقولت له أين زوجتي هل هي بخير قال “البقاء لله شد حيلك أولادك محتجاينك  دلوقتي”، كانت كلماته مثل الرصاص القاتل بالنسبة لي فكيف سأرعى ذلك الصغار وسلمى وكيف سأعيش بعد رحيل رفيقة عمري، لقد تحولت الحياة من اللون الوردي إلى الأسود”.

مرت الأيام وكنت أراعي أبنائي الصغار فكنت أعمل بالصباح وأتركهم لجدتهم أم  زوجتي، ثم أتولى رعايتهم بقية اليوم، فعند عودتي من العمل لم أكن أستريح، وإنما كنت أحضر الطعام لهم وأطعم صغاري وأغير لهم ومرت الأيام وزاد الحمل، فلقد تركت لي زوجتي ثلاث أطفال صغار للغاية، ويجب الاعتناء بهم ورعايتهم ورعاية صحتهم وتلبية جميع ما يحتاجونه فكنت لا أستريح نهائيا، وكان العبء شديدا والابتلاء قويا وبدأ صغاري يكبرون يوما بعد يوم، وكانت فرحتي بهم شديدة بالرغم من ألمي من فراق زوجتي لكنني كنت كلما تذكرت كلامها قبل دخولها غرفة الولادة يشتد ساعدى وأبذل جهدا أكبر حتى أعوضهم عن ألم فراق الأم، ودخل الصغار المدرسة، وبدأت المسؤولية تزداد، وكانت المذاكرة أمراً صعبا بالنسبة لي في بادئ الأمر مع شقاوتهم، ولكن مع مرور الوقت وضعنا جدولا للعب وجدولا للمذاكرة، وكانت سلمى بالرغم من صغرها قد اكتسبت الكثير من والدتها والكثير من الحنية التي كانت تراعي بها أخواتها وتساعدهم بالرغم من أن الفارق ليس كبيرا بينهم فكانت التحديات كبيرة بالنسبة لي لأن السن صغير للغاية، ولا أعلم كيف تكون التربية والمعاملة مع هؤلاء الصغار، وكنت لا أستطيع أخذ الإجازات أيضا لتغطية تكاليفهم فكان ذلك تحديا آخر، أيضا من الأمور الصعبة الموازنة بين العمل وبين التربية، لكن ما خفف عني العبء وقوف جدتهم معي، فقد ساعدتني في ذلك، وكنت كلما استصعبت أمرا أو أردت تثقيف نفسي عن تربيتهم ألجأ إليها أيضاً أو إلى طبيب نفسي صديقي، أيضا لم أفكر في الزواج لأنني كرست حياتي لزوجتي الراحلة ولأولادنا ولا أريد زوجة أخرى مكانها لي أو للأولاد”.

تجربته المريرة تركت فيه قدراً من الخبرة والحكمة أيضاً حول التربية، حيث يقول: “لا يستطيع الطفل التعايش مع الأب فقط لأنه يريد الأم أيضا، ولا شيء يعوض غيابها، ولا يستجيب الأطفال لتربية الأب في البداية، لأنه في النهاية رجل ودائما يفكر الرجل بالعقل وليس بالعاطفة كالأم، والأطفال يحتاجون العاطفة أكثر، وأصعب سن هو سن المراهقة لأن هذا السن يحتاج المتابعة والتحدث باستمرار مع الأبناء، ويحتاج أيضا لوجود الأم بالفعل، وقد يقع الأب في أخطاء كثيرة مثل العصبية وهذا شيء خطير جدا يجعل الطفل يمارس العناد”.

واختتم مصطفى كلامه بعينين يملؤهما الحسرة، وقال: “هذا الابتلاء كان مؤلماً وصعباً للغاية لكنني أحمد الله عليه ولم أعترض وسأظل ظهراً وسنداً لأبنائي وأسعى إلى أن يكونوا دائماً الأفضل، وسأساعدهم على كل أمر يتمنوه، كما سأظل دائماً وفياً لزوجتي حتى بعد وفاتها وسأظل أتذكرها حتى أقابلها مرة ثانية”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *